فصل: باب الوليمة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي للفتاوي ***


باب الوليمة

مسألة‏:‏

تقبيل الخبز هل هو بدعة أم لا وإذا كان بدعة هل يكون حراما أم لا وقد قال ابن النحاس في تنبيه الغافلين ومنها - أي من البدع - تقبيل الخبز وهو بدعة لا تجوز وقد أفتى جماعة أنه يجوز دوسه ولا يجوز بوسه لكن دوسه خلاف الأولى وربما كرهه بعضهم وأما بوسه فهو بدعة وارتكاب البدع لا يجوز وانظر إلى قول عمر رضي الله عنه في الحجر الأسود إني لأعلم أنك لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، هذا وهو الحجر الأسود الذي هو من ياقوت الجنة وهو يمين الله في الأرض يصافح بها خلقه كما ورد في الحديث فكيف يجوز تقبيل الخبز، لكن يستحب إكرامه ورفعه من تحت الأقدام من غير تقبيل وقد ورد في إكرام الخبز أحاديث لا أعلم فيها شيئا صحيحا ولا حسنا - هذا نصه بحروفه فهل ما قاله هو الصحيح المعتمد أم لا

الجواب‏:‏

أما كون تقبيل الخبز بدعة فصحيح ولكن لا تنحصر في الحرام بل تنقسم إلى الأحكام الخمسة ولا شك أنه لا يمكن الحكم على هذا بالتحريم لأنه لا دليل على تحريمه ولا بالكراهة لأن المكروه ما ورد فيه نهي خاص ولم يرد في ذلك نهي، والذي يظهر أن هذا من البدع المباحة فان قصد بذلك إكرامه لأجل الأحاديث الواردة في إكرامه فحسن ودوسه مكروه كراهة شديدة بل مجرد إلقائه في الأرض من غير دوس مكروه لحديث ورد في ذلك‏.‏

حسن المقصد في عمل المولد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى‏.‏ وبعد فقد وقع السؤال عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول ما حكمه من حيث الشرع وهل هو محمود أو مذموم وهل يثاب فاعله أو لا‏.‏

الجواب-عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع <ص الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف، وأول من أحدث فعل ذلك صاحب اربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبرى بن زين الدين علي بن بكتكين أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد وكان له آثار حسنة وهو الذي عمر الجامع المظفري بسفح قاسيون قال ابن كثير في تاريخه: كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا وكان شهما شجاعا بطلا عاقلا عالما عادلا رحمه الله وأكرم مثواه، قال وقد صنف له الشيخ أبو الخطاب بن دحية مجلدا في المولد النبوي سماه (التنوير في مولد البشير النذير) فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك إلى أن مات وهو محاصر للفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين وستمائة محمود السيرة والسريرة، وقال سبط بن الجوزي في مرآة الزمن: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد أنه عد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس غنم شوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة فرس ومائة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حلوى، قال وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم ويعمل للصوفية سماعا من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاث مائة ألف دينار وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة فكان يصرف على هذه الدار في كل سنة مائة ألف دينار وكان يستفك من الفرنج في كل سنة أساري بمائتي ألف دينار وكان يصرف على الحرمين والمياه بدرب الحجاز في كل سنة ثلاثين ألف دينار هذا كله سوى صدقات السر، وحكت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب أخت الملك الناصر صلاح الدين أن قميصه كان من كرباس غليظ لا يساوي خمسة دراهم قالت فعاتبته في ذلك فقال لبسي ثوبا بخمسة وأتصدق بالباقي خير من أن ألبس ثوبا مثمنا وأدع الفقير والمسكين، وقال ابن خلكان في ترجمة الحافظ أبي الخطاب بن دحية: كان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء قدم من المغرب فدخل الشام والعراق واجتاز بإربل سنة أربع وستمائة فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني <ص بالمولد النبوي فعمل له كتاب التنوير في مولد البشير النذير وقرأه عليه بنفسه فأجازه بألف دينار قال وقد سمعناه على السلطان في ستة مجالس في سنة خمس وعشرين وستمائة انتهى. وقد ادعى الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني من متأخري المالكية أن عمل المولد بدعة مذمومة وألف في ذلك كتابا سماه المورد في الكلام على عمل المولد، وأنا أسوقه هنا برمته وأتكلم عليه حرفا حرفا؛ قال رحمه الله: الحمد لله الذي هدانا لا تباع سيد المرسلين وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين ويسر لنا اقتفاء أثر السلف الصالحين حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين وطهر سرائرنا من حدث الحوادث والابتداع في الدين أحمده على ما من به من أنوار اليقين وأشكره على ما أسداه من التمسك بالحبل المتين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين صلاة دائمة إلى يوم الدين. أما بعد فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد أصل في الشرع أو هو بدعة وحدث في الدين وقصدوا الجواب عن ذلك مبينا والإيضاح عنه معينا فقلت وبالله التوفيق :لا أعلم لهذا المولد هل له أصلا في كتاب ولا سنة و لا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين بل هو بدعة أحدثها البطالون وشهوة نفس اعتني بها الأكالون بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا إما أن يكون واجبا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو محرما وليس بواجب إجماعا ولا مندوبا لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون المتدينون فيما علمت وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت ولا جائز أن يكون مباحا لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين فلم يبق إلا أن يكون مكروها أو حراما وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين والتفرقة بين حالين أحدهما أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام و لا يقترفون شيئا من الآثام وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام سرج الأزمنة وزين الأمكنة، والثاني أن تدخله الجناية وتقوى به العناية حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه وقلبه يؤلمه ويوجعه لما يجد من ألم الحيف وقد قال العلماء أخذ المال بالجاه كأخذه بالسيف لا سيما أن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات إما مختلطات بهن أو مشرفات والرقص بالتثني والانعطاف والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد والخروج في التلاوة والذكر المشروع والأمر المعتاد غافلات عن قوله تعالى(إن ربك لبالمرصاد) وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب وغير المستقلين من الآثام والذنوب وأزيدك أنهم يرونه من العبادات لا من الأمور المنكرات المحرمات فإنا لله وإنا إليه راجعون بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدا ولله در شيخنا القشيري حيث يقول فما أجازناه:

قد عرف المنكر واستنكر المعروف في أيامنا الصعبة

وصار أهل العلم في وهدة *** وصار أهل الجهل في رتبة

جازوا عن الحق فما للذي *** ساروا به فيما مضى نسبة

فقلت للأبرار أهل التقي *** والدين لما اشتدت الكربة

لا تنكروا أحوالكم قد أتت *** نوبتكم في زمن الغربة

ولقد أحسن الإمام أبو عمرو بن العلاء حيث يقول لا يزال: الناس بخير ما تعجب من العجب، هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسام وهو ربيع الأول هو بعينه الشهر الذي توفي فيه فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه. وهذا ما علينا أن نقول ومن الله تعالى نرجو حسن القبول.

هذا جميع ما أورده الفاكهاني في كتابه المذكور، وأقول: أما قوله لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب و لا سنة فيقال عليه نفي العلم لا يلزم منه نفي الوجود، وقد استخرج له إمام الحفاظ أبو الفضل بن حجر أصلا من السنة واستخرجت له أنا أصلا ثانيا وسيأتي ذكرها بعد هذا، وقوله بل هو بدعة أحدثها البطالون إلى قوله ولا العلماء المتدينون يقال عليه قد تقدم أنه أحدثه ملك عادل عالم وقصد به التقرب إلى الله تعالى وحضر عنده فيه العلماء والصلحاء من غير نكير منهم وارتضاه ابن دحية وصنف له من أجله كتابا فهؤلاء علماء متدينون رضوه وأقروه ولم ينكروه، وقوله ولا مندوبا لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع يقال عليه إن الطلب في المندوب تارة يكون بالنص وتارة يكون بالقياس وهذا وإن لم يرد فيه نص ففيه القياس على الأصلين الآتي ذكرهما، وقوله ولا جائز أن يكون مباحا لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين كلام غير مسلم لأن البدعة لم تنحصر في الحرام والمكروه بل قد تكون أيضا مباحة ومندوبة وواجبة قال النووي في التهذيب الأسماء واللغات البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله علبه وسلم وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة، وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في القواعد البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة قال والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإذا دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة أو في قواعد التحريم فهي محرمة أو الندب فمندوبة أو المكروه فمكروهة أو المباح فمباحة، وذكر لكل قسم من هذه الخمسة أمثلة إلى أن قال وللبدع المندوبة أمثلة: منها إحداث الربط والمدارس وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول ومنها التراويح والكلام في دقائق التصوف وفي الجدل، ومنها جمع المحافل للاستدلال في المسائل إن قصد بذلك وجه الله تعالى، وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي قال المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة الضلالة والثاني ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان نعمت البدعة هذه يعني أنها محدثة لم تكن وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى - هذا آخر كلام الشافعي فعرف بذلك منع قول الشيخ تاج الدين ولا جائز أن يكون مباحا إلى قوله وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة إلى آخره لأن هذا القسم مما أحدث وليس فيه مخالفة لكتاب ولا سنة ولا أثر ولا إجماع فهي غير مذمومة كما في عبارة الشافعي وهو من الإحسان الذي لم يعهد في العصر الأول فان إطعام الطعام الخالي عن اقتراف الآثام إحسان فهو من البدع المندوبة كما في عبارة ابن عبد السلام، وقوله والثاني إلى آخره هو كلام صحيح في نفسه غير أن التحريم فيه إنما جاء من قبل هذه الأشياء المحرمة التي ضمت إليه لا من حيث الاجتماع لا ظهار شعار المولد بل لو وقع مثل هذه الأمور في الاجتماع لصلاة الجمعة مثلا لكانت قبيحة شنيعة و لا يلزم من ذلك ذم أصل الاجتماع لصلاة الجمعة كما هو واضح وقد رأينا بعض هذه الأمور يقع في ليالي من رمضان عند اجتماع الناس لصلاة التراويح فهل يتصور ذم الاجتماع لأجل هذه الأمور التي قرنت بها كلا بل نقول أصل الاجتماع لصلاة التراويح سنة وقربة وما ضم إليها من هذه الأمور قبيح شنيع وكذلك نقول أصل الاجتماع لإظهار شعار المولد مندوب وقربة وما ضم إليه من هذه الأمور مذموم وممنوع، وقوله مع أن الشهر الذي ولد فيه إلى آخره جوابه أن يقال أولا أن ولادته صلى الله عليه وسلم أعظم النعم علينا ووفاته أعظم المصائب لنا والشريعة حثت على إظهار شكر النعم والصبر والسلوان والكتم عند المصائب وقد أمر الشرع بالعقيقة عند الولادة وهي إظهار شكر وفرح بالمولود و لم يأمر عند الموت بذبح ولا غيره بل نهى عن النياحة وإظهار الجزع فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذا الشهر إظهار الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم دون إظهار الحزن فيه بوفاته وقد قال ابن رجب في كتاب اللطائف في ذم الرافضة حيث اتخذوا يوم عاشوراء مأتما لأجل قتل الحسين لم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما فكيف ممن هو دونهم.

وقد تكلم الإمام أبو عبد الله ابن الحاج في كتابه المدخل على عمل المولد فأتقن الكلام فيه جدا، وحاصله مدح ما كان فيه من إظهار شعار وشكر، وذم ما احتوى عليه من محرمات ومنكرات، وأنا أسوق كلامه فصلا فصلا قال: (فصل في المولد) ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات وإظهار الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد وقد احتوى ذلك على بدع ومحرمات جملة فمن ذلك استعمال المغاني ومعهم آلات الطرب من الطار المصرصر والشبابة وغير ذلك مما جعلوه آلة للسماع ومضوا في ذلك على العوائد الذميمة في كونهم يشغلون أكثر الأزمنة التي فضلها الله تعالى وعظمها ببدع ومحرمات ولا شك أن السماع في غير هذه الليلة فيه ما فيه فكيف به إذا انضم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم الذي فضله الله تعالى وفضلنا فيه بهذا النبي الكريم فآلة الطرب والسماع أي نسبة بينها وبين هذا الشهر الكريم الذي من الله علينا فيه بسيد الأولين والآخرين وكان يجب أن يزاد فيه من العبادة والخير شكرا للمولى على ما أولانا به من هذه النعم العظيمة وان كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد فيه على غيره من الشهور شيئا من العبادات وما ذاك إلا لرحمته صلى الله عليه وسلم لأمته ورفقه بهم لأنه عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل خشية أن يفرض على أمته رحمة منه بهم لكن أشار عليه السلام إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله للسائل الذي سأله عن صوم يوم الاثنين (ذاك يوم ولدت فيه) فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي ولد فيه فينبغي أن نحترمه حق الاحترام ونفضله بما فضل الله به الأشهر الفاضلة وهذا منها لقوله عليه السلام (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي) وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خصها الله به من العبادات التي تفعل فيها لما قد علم أن الأمكنة والأزمنة لا تشرف لذاتها وإنما يحصل لها التشريف بما خصت به من المعاني فانظر إلى ما خص الله به هذا الشهر الشريف ويوم الاثنين ألا ترى أن صوم هذا اليوم فيه فضل عظيم لأنه صلى الله عليه وسلم ولد فيه فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أن يكرم ويعظم ويحترم الاحترام اللائق به اتباعا له صلى الله عليه وسلم في كونه كان يخص الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البر فيها وكثرة الخيرات ألا ترى إلى قول ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان فنمتثل تعظيم الأوقات الفاضلة بما امتثله على قدر استطاعتنا فان قال قائل قد التزم عليه الصلاة والسلام في الأوقات الفاضلة ما ألتزمه مما قد علم ولم يلتزم في هذا الشهر ما ألتزمه في غيره فالجواب أن ذلك لما علم من عادته الكريمة انه يريد التخفيف عن أمته سيما فيما كان يخصه ألا ترى إلى أنه عليه السلام حرم المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة ومع ذلك لم يشرع في قتل صيده ولا شجره الجزاء تخفيفا على أمته ورحمة بهم فكان ينظر إلى ما هو من جهته وان كان فاضلا في نفسه فيتركه للتخفيف عنهم فعلى هذا تعظيم هذا الشهر الشريف إنما يكون بزيادة الأعمال الزاكيات فيه والصدقات إلى غير ذلك من القربات فمن عجز عن ذلك فأقل أحواله أن يجتنب ما يحرم عليه ويسكن له تعظيما لهذا الشهر الشريف وإن كان ذلك مطلوبا في غيره إلا أنه في هذا الشهر أكثر احتراما كما يتأكد في شهر رمضان وفي الأشهر الحرم فيترك الحدث في الدين ويجتنب مواضع البدع وما لا ينبغي وقد ارتكب بعضهم في هذا الزمن ضد هذا المعنى وهو أنه إذا دخل هذا الشهر العظيم تسارعوا فيه إلى اللهو وللعب بالدف والشبابة وغيرهما ويا ليتهم عملوا المغاني ليس إلا بل يزعم بعضهم انه يتأدب فيبدأ المولد بقراءة الكتاب العزيز وينظرون إلى من هو أكثر معرفة بالتهوك والطرق المبهجة لطرب النفوس وهذا فيه وجوه من المفاسد ثم أنهم لم يقتصروا على ما ذكر بل ضم بعضهم إلى ذلك الأمر الخطر وهو أن يكون المغني شابا لطيف الصورة حسن الصوت والكسوة والهيئة فينشد التغزل ويتكسر في صوته وحركاته فيفتن بعض من معه من الرجال والنساء فتقع الفتنة في الفريقين ويثور من المفاسد ما لا يحصى وقد يؤول ذلك في الغالب إلى فساد حال الزوج وحال الزوجة ويحصل الفراق والنكد العاجل وتشتت أمرهم بعد جمعهم وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع فإن خلا منه وعمل طعاما فقط ونوي به المولد ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط لأن ذلك زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضين واتباع السلف أولى ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد ونحن تبع فيسعنا ما وسعهم انتهى.

وحاصل ما ذكره أنه لم يذم المولد بل ذم ما يحتوي عليه من المحرمات والمنكرات وأول كلامه صريح في أنه ينبغي أن يخص هذا الشهر بزيادة فعل البر وكثرة الخيرات والصدقات وغير ذلك من وجوه القربات وهذا هو عمل المولد الذي استحسناه فانه ليس فيه شيء سوى قراءة القرآن وإطعام الطعام وذلك خير وبر وقربة، وأما قوله آخرا إنه بدعة فإما أن يكون مناقضا لما تقدم أو يحمل على انه بدعة حسنة كما تقدم تقريره في صدر الكتاب أو يحمل على أن فعل ذلك خير والبدعة منه نية المولد كما أشار إليه بقوله فهو بدعة بنفس نيته فقط وبقوله ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد فظاهر هذا الكلام أنه كره أن ينوي به المولد فقط ولم يكره عمل الطعام ودعاء الأخوان إليه وهذا إذا حقق النظر لا يجتمع مع أول كلامه لأنه حث فيه على زيادة فعل البر وما ذكر معه على وجه الشكر لله تعالى إذا أوجد في هذا الشهر الشريف سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وهذا هو معنى نية المولد فكيف يذم هذا القدر مع الحث عليه أولا و أما مجرد فعل البر وما ذكر معه من غير نية أصلا فانه لا يكاد يتصور ولو تصور لم يكن عبادة ولا ثواب فيه إذ لا عمل إلا بنية ولا نية هنا إلا الشكر لله تعالى على ولادة هذا النبي الكريم في هذا الشهر الشريف وهذا معنى نية المولد فهي نية مستحسنة بلا شك فتأمل، ثم قال ابن الحاج ومنهم من يفعل المولد لا لمجرد التعظيم ولكن له فضة عند الناس متفرقة كان قد أعطاها في بعض الأفراح أو المواسم ويريد أن يستردها ويستحي أن يطلبها بذاته فيعمل المولد حتى يكون ذلك سببا لأخذ ما اجتمع له عند الناس هذا فيه وجوه من المفاسد منها أنه يتصف بصفة النفاق وهو أن يظهر خلاف ما يبطن إذ ظاهر حاله أنه عمل المولد يبتغي به الدار الآخرة وباطنه أنه يجمع به فضة، ومنهم من يعمل المولد لأجل جمع الدراهم أو طلب ثناء الناس عليه ومساعدتهم له وهذا أيضا فيه من المفاسد ما لا يخفى انتهى، وهذا أيضا من نمط ما تقدم ذكره وهو أن الذم فيه إنما حصل من عدم النية الصالحة لا من أصل عمل المولد.

وقد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل بن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا قال وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه - فهذا ما يتعلق بأصل عمله، وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال ما كان من ذلك مباحا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به وما كان حراما أو مكروها فيمنع وكذا ما كان خلاف الأولى انتهى. قلت وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته والعقيقة لا تعاد مرة ثانية فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه لذلك فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات، ثم رأيت إمام القراء الحافظ شمس الدين بن الجزري قال في كتابه المسمى عرف التعريف بالمولد الشريف ما نصه قد رؤى أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له ما حالك فقال في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين وأمص من بين أصبعي ماء بقدر هذا- وأشار لرأس أصبعه- وأن ذلك بإعتاقي لثويبة عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له. فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى اله عليه وسلم به فما حال المسلم الموحد من أمة النبي صلى اله عليه وسلم يسر بمولده ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنات النعيم. وقال الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي في كتابه المسمى مورد الصادي في مولد الهادي قد صح أن أبا لهب يخفف عنه عذاب النار في مثل يوم الاثنين لإعتاقه ثويبة سرورا بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنشد:

إذا كان هذا كافرا جاء ذمه *** وتبت يداه في الجحيم مخلدا

أتى أنه في يوم الاثنين دائما *** يخفف عنه للسرور بأحمدا

فما الظن بالعبد الذي طول عمره *** بأحمد مسرورا ومات موحدا

وقال الكمال الأدفوي في الطالع السعيد حكى لنا صاحبنا العدل ناصر الدين محمود ابن العماد أن أبا الطيب محمد بن إبراهيم السبتي المالكي نزيل قوص أحد العلماء العاملين كان يجوز بالمكتب في اليوم الذي فيه ولد النبي صلى الله عليه وسلم فيقول يا فقيه هذا يوم سرور اصرف الصبيان فيصرفنا، وهذا منه دليل على تقريره وعدم إنكاره وهذا الرجل كان فقيها مالكيا متفننا في علوم متورعا أخذ عنه أبو حيان وغيره ومات سنة خمس وتسعين وستمائة.

(فائدة) قال ابن الحاج: فإن قيل ما الحكمة في كونه عليه الصلاة والسلام خص مولده الكريم بشهر ربيع الأول ويوم الاثنين ولم يكن في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وفيه ليلة القدر ولا في الأشهر الحرم ولا في ليلة النصف من شعبان ولا في يوم الجمعة وليلتها. فالجواب من أربعة أوجه:

الأول ما ورد في الحديث من أن الله خلق الشجر يوم الاثنين وفي ذلك تنبيه عظيم وهو أن خلق الأقوات والأرزاق والفواكه والخيرات التي يمتد به بنو آدم ويحيون وتطيب بها نفوسهم.

الثاني أن في لفظه ربيع إشارة وتفاؤلا حسنا بالنسبة إلى اشتقاقه وقد قال أبو عبد الرحمن الصقلي لكل إنسان من أسمه نصيب.

الثالث أن فصل الربيع أعدل الفصول وأحسنها وشريعته أعدل الشرائع وأسمحها.

الرابع أن الحكيم سبحانه أراد أن يشرف به الزمان الذي ولد فيه فلو ولدفي الأوقات المتقدم ذكرها لكان قد يتوهم أنه يتشرف بها.

باب الخلع

مسألة‏:‏

رجل قالت له زوجته ائت بشاهد لأبرئك وطلقني فأتى لها به فقالت أبرأتك فقال أنت طالق ثلاثا فقالت له قل إن شاء الله فقال إن شاء الله‏.‏

الجواب‏:‏

أن كانت تعلم القدر الذي لها عليه صحت البراءة وإلا لم تصح وأما الطلاق فانه نجزه ولم يعلقه على البراءة فالظاهر وقوعه صحت البراءة أم لا و لا ينفعه قوله بعد ذلك إن شاء الله‏.‏

مسألة‏:‏

في رجل قال لزوجته أن أبرأتني من جميع ما يلزمني لك فأنت طالق فأبرأته ثم قال أنت طالق ثم بعد مضي قدر ثلاث درج قال أنت طالق ثلاثا فهل تبين باللفظ الأول أو يقع رجعيا وإذا قلتم بعدم البينونة لكون الابراء، لا يقبل التعليق فهل تبين بقوله أنت طالق الثانية الذي قالها بعد الابراء، وهل يقع طلقتين أو يقعا رجعتين وتلحقه الطلقة الثالثة‏.‏

الجواب‏:‏

إن كان القدر المبرأ منه معلوما صحت البراءة ووقع الطلاق بائنا ولم يلحق شيء بعد ذلك وإن كان مجهولا لم يصح ولم يقع الطلاق المعلق على البراءة ثم قوله بعد أنت طالق يقع به طلقة رجعية ثم تكمل الثلاث بقوله بعد أن أنت طالق ثلاثا، وقول السائل لكون الإبراء لا يقبل التعليق ليست هذه الصورة من تعليق الإبراء بل هي من تعليق الطلاق على الإبراء فالإبراء معلق عليه لا معلق فليفهم والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

إذا قالت الزوجة أن طلقتني فأنت بريء من صداقي فهل يقع الطلاق رجعيا أم يجب فيه مهر المثل كما لو كان العوض فاسدا بأن ذكر خمرا أو نحوه أو لا يقع الطلاق حملا على أن تعليق الإبراء لا يصح أم كيف الحال‏.‏

الجواب‏:‏

إذا قالت أن طلقتني فأنت بريء من صداقي لم يحصل الإبراء لأن تعليقه باطل وهل يقع رجعيا ولا شيء أو بائنا ويلزمها مهر المثل وجهان جزم الرافعي والنووي بالأول في الباب الرابع من أبواب الخلع وجزما بالثاني نقلا عن القاضي حسين وأقراه في الفروع المنثورة آخر الخلع، وذكر الأسنوي في المهمات أن الأول هو المشهور في المذهب، واقتصر عليه الرافعي في الشرح الصغير لكن مال في الكبير إلى الثاني بحثا وبه أجاب القفال في فتاويه والغزالي وصححه ابن الصلاح‏.‏

مسألة‏:‏

رجل قال لزوجته إن أبرأتني من صداقك فأنت طالقا فإذا أبرأته فهل يقع الطلاق بائنا أو رجعيا، وهل يشترط أن تبرئ على الفور أولا، وهل يشترط علم كل منهما بقدر المبرأ منه أو علم الزوج فقط، أو الزوجة فقط وإذا رجع الزوج قبل صدور الإبراء هل يبطل حكمه‏.‏

الجواب‏:‏

الراجح في هذه الصورة وقوعه بائنا بشرط أن يكون في المجلس كما نبه عليه الزركشي في قواعده وبشرط أن تنوي الزوجة البراءة من المعلق عليه وبشرط أن يكونا عالمين بقدره كما نبه عليهما الشيخ ولي الدين العراقي في فتاويه‏.‏

باب الطلاق

مسألة‏:‏

رجل طلق امرأته واحدة ثم خرج من عندها فلقيه شخص فقال ما فعلت بزوجتك قال طلقتها سبعين فهل يقع عليه الثلاث‏.‏

الجواب‏:‏

نعم يقع عليه الثلاث مؤاخذة بإقراره‏.‏

مسألة‏:‏

رجل قال لزوجته الطلاق يلزمني ثلاثا إن آذيتني يكون سبب الفراق بيني وبينك فاختلست له نصف فضة فما يقع عليه‏.‏

الجواب‏:‏

يطلقها حينئذ طلقة فيبر من حلفه فان لم يفعل وقع عليه الثلاث‏.‏

مسألة‏:‏

رجل حلف بالطلاق أنه لا ينام بحذاء زوجته فجاءت وهو مستغرق في النوم واضطجعت حذاءه وأيقظته فقام من نومه ولم ينم بحذائها فهل يقع عليه الطلاق‏.‏

الجواب‏:‏

لا يقع الطلاق والحالة هذه‏.‏

مسألة‏:‏

رجل تشاجر مع زوجته فقالت له قل لي طالق فقال طالق بلا نية فهل يقع الطلاق‏.‏

الجواب‏:‏

لا يقع حتى يصرح بأنت أو زوجتي أو نحو ذلك‏.‏

مسألة‏:‏

شاهد حلف بالطلاق لا يكتب مع فلان في ورقة رسم شهادة فكتب الحالف أولا ثم كتب الآخر‏.‏

الجواب‏:‏

إن لم تكن أصل الورقة المكتوبة بخط المحلوف عليه ولا كان بينه وبينه في هذه الواقعة تواطؤ ولا على علمه أنه يكتب فيها لم يحنث وإلا حنث‏.‏

مسألة –

ما قولكم أهل العلم والتقى*** بقيتم في عزة وفي ارتقا

في رجل طلق طلقتين *** زوجته يا قرة لعين

ثم تزوجت بشخص فإذا *** ما طلقت منه فهل من بعد ذا

لزوجها الأول هل تعود *** لا فارقت أبوابك السعود

على ثلاث مثل ما قد كانت *** أو بالذي يبقى بعيد بانت

وما هو الحكم افتنا مأجورا *** فطالع السعد يضيء نورا

الجواب –

الحمد الله الذي قد وفقا *** إلى الجواب بالصواب المنتقى

ثم على نبينا الأمين *** صلاته تشرق كل حين

إن طلقتين طلق الزوج وذا *** من بعد ما تزوجت قد أخذا

فإنها بطلقة تعود *** قد قاله أمامنا المفيد

وليس حقا بالثلاث عادت *** فافهم جوابي فهم حبر قانت

وابن السيوطي الشافعي يرتجى *** من ربه مغفرة ويلتجى

مسألة‏:‏

قول المنهاج في الطلاق يصح الاستثناء بشرط اتصاله ولا يضر سكتة تنفس وعى هل هو بكسر العين أو بفتحها وما معناه‏.‏

الجواب‏:‏

هو بالكسر وهو التعب من القول قال في الصحاح العي خلاف البيان‏.‏

مسألة‏:‏

شخص أراد أن يحبس رجلا بدين فقال له إن طلقت زوجتك بائنا لم أحبسك أو قال له إن لم تطلقها بائنا حبستك فطلقها بمال خوفا من الحبس هل يقع عليه الطلاق أم لا‏.‏

الجواب‏:‏

يفرق بين الموسر والمعسر فان كان موسرا فتهديده بالحبس على الدين إكراه بحق فلا يمنع وقوع الطلاق، وإن كان معسرا فهو ظلم لأن حبس المعسر لا يجوز فهو إكراه بغير حق فلا يقع الطلاق‏.‏

مسألة‏:‏

فيمن قال لزوجته تكوني طالقا هل تطلق أم لا لاحتمال هذا اللفظ الحال والاستقبال وهل هو صريح أم كناية، وإذا قلتم بعدم وقوعه في الحال فمتى يقع أبمضي لحظة أم لا يقع أصلا لأن الوقت مبهم‏.‏

الجواب‏:‏

الظاهر أن هذا اللفظ كناية فأن أراد به وقوع الطلاق في الحال طلقت أو التعليق احتاج إلى ذكر المعلق عليه وإلا فهو وعد لا يقع به شيء، ثم بحث باحث في مسألة الأخيرة فقال الكناية ما احتمل الطلاق وغيره وهذا ليس كذلك فقلت بل هو كذلك لأنه يحتمل إنشاء الطلاق والوعد به فقال إذا قصد الاستقبال فيبغي أن يقع بعد مضي زمن كالمعلق على مضي زمان فقلت لا لأنه لم يصرح بالتعليق و لا بد في التعليقات من ذكر المعلق وهو الطلاق والمعلق عليه وهو الفعل أو الزمن مثلا وهنا لم يقع ذكر الزمان المعلق عليه قال هو مذكور في الفعل وهو تكوني فإنه يدل على الحدث والزمان قلت دلالته عليهما ليست بالوضع ولا لفظية ولهذا قال النحاة أن الفعل وضع لحدث مقترن بزمان ولم يقولوا أنه وضع للحدث والزمان، وقد صرح ابن جني في الخصائص بأن الدلالات في عرف النحاة ثلاث لفظية و صناعية ومعنوية فالأولى كدلالة الفعل على الحدث والثانية كدلالته على الزمان والثالثة كدلالته على الفعال، وصرح ابن هشام الخضراوي في الإفصاح بأن دلالة الأفعال على الزمان ليست لفظية بل هي من باب دلالة التضمن وقد بينت ذلك في كتاب أصول النحو، ودلالات التضمن والالتزام لا يعمل بها في الطلاق والأقارير ونحوها بل لا يعتمد فيها إلا على مدلول اللفظ من حيث الوضع والدلالة اللفظية فثبت ما قلناه من أن هذه الصيغة وعد وهو مضارع لو دخل عليه حرف التنفيس لقيل سوف تكونين طالقا وهذه الصيغة وعد بلا شك فكذا عن تجرده من سوف فان قيل لفظ السؤال تكوني بحذف النون قلت لا فرق فانه لغة وعلى تقرير أن يكون لحنا فلا فرق في وقوع الطلاق بين المعرب والملحون بمثل ذلك فان نوى بذلك الأمر على حذف اللام أي لتكوني فهو إنشاء فتطلق في الحال بلا شك‏.‏

مسألة‏:‏

في رجل دخلت امرأته إلى بيت رجل من إلزامه فدخل فوجدها قائمة مشدودة الوسط فقال صرت خديمة الطلاق يلزمني ما بقيت تدخلي من هذه العتبة، ثم إن صاحبة البيت انتقلت إلى دار أخرى فهل إذا دخلت الزوجة المحلوف عليها الدار الثانية يقع عليها الطلاق أولا‏.‏

الجواب- لا يقع الطلاق بدخول الدار الثانية ويقع بدخول الأولى من تلك العتبة ولو بعد النقلة لأجل التعيين بالإشارة‏.‏

مسألة‏:‏

في رجل عليه دين لشخص فطالبه فحلف المديون بالطلاق متى أخذت مني هذا المبلغ في هذا اليوم ما أسكن في هذه الحارة، ثم أنه تعوض في المبلغ المذكور قماشا وانتقل من وقته فهل إذا عاد يقع عليه الطلاق أم لا‏.‏

الجواب‏:‏

هنا أمران يتكلم فيهما الأول كونه تعوض بالمبلغ قماشا والحلف على أخذ هذا المبلغ فالإشارة إلى المبلغ المدعى به الثابت في الذمة وهو نقد والمأخوذ غير المشار إليه فلم يقع أخذ المحلوف عليه فلا يقع الطلاق إلا أن يريد بالأخذ مطلق الاستيفاء فيقع حينئذ عملا بنيته، الثاني العود بعد النقلة فان لم يقع الطلاق وهو في صورة الإطلاق فواضح وإن وقع وهو في صورة قصد مطلق الاستيفاء فالحلف قد وقع على السكنى من غير تقييد فيحنث بالسكنى في أي وقت كان‏.‏

مسألة‏:‏

رجل حلف بالطلاق أنه متى غاب عن زوجته عشرة أيام بلا نفقة كانت طالقا ثم بعد ذلك جاء أبوها وأخذها من منزل الزوج بغير إذنه وسافر بها إلى قطر آخر فجاء الزوج إلى منزله وسأل عن زوجته فأخبر بما وقع فتخلف الرجل عن السفر إليهم مدة تزيد على عشرة أيام فهل يقع عليه الطلاق أم لا‏.‏

الجواب‏:‏

لا يقع عليه الطلاق والحالة هذه لأمرين أحدهما أنها لا تستحق نفقة في هذه الحالة فينزل قوله بلا نفقة على النفقة الواجبة أو ما يقوم مقامها، والثاني أنه لم تحصل الغيبة عشرة أيام من جهته وإنما حصلت من جهتها، ونظير هذه المسألة من المنقول من حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي منه ففارقه الغريم وهو واقف لم يتبعه لم يحنث سواء أمكنه اتباعه أم لا لأن المفارقة لم تحصل من جهته‏.‏

مسألة‏:‏

رجل حلف بالطلاق أني أجود من فلان فهل عليه البينة بذلك، ورجل حلف أن هذا الشاش لغيره الذي على رأس زيد لعمرو وأشار إليه فظهر أن الشاش لغيره وكان الحالف عهد الشاش عمرو على زيد فهل يغلب جانب الإشارة على الظن ويقع عليه الطلاق أولا، ورجل أكره زيدا على طلاق زوجته في مجلسه بطلقة فلم يوقعها في مجلسه ثم إنه خرج في الترسيم وخلع زوجته بطلقة على عوض معلوم فهل يعد ذلك إكراها ولا يحنث أم يقع عليه بصريح الخلع طلقة بائنة، وما هو الأجود هل الأفضل دينا أو النسب أو الأكرم‏.‏

الجواب- الأحوال ثلاثة تارة يعرف الناس أن الحالف أجود أي أدين من الآخر فلا حنث وتارة يعرفون أن الآخر أدين منه فيحنث وتارة لا يعلم ذلك لكونهما متقاربين في الدين أو النحس ولا يعلم أيهما أميز فلا حنث للشك، ومسألة الشاش يقع فيها الطلاق عندي ولي في ذلك مؤلف، ومسألة الخالع يقع فيها الطلاق لأنه خالف ما أكره عليه‏.‏

مسألة‏:‏

رجل اشترى خرقة جوخ فقطع بعض الثمن للبائع فقال البائع على الطلاق ما يلبسها إلا أنا أي الخرقة المذكورة ولا نية للحالف أصلا ثم اتفق هو والمشتري على أن يفصل الخرقة المذكورة ويخيطها فلما فصلت وخيطت جيء بها وعلق فيها ما خرج منها مما لا بد من إخراجه عند الخياط من قوارة وما يقطع من الذيل وغيره للإصلاح ولبسها البائع ثم نزعها وقلع منها ما علقه فيها من القوارة وغيرها ثم دفعها للمشتري فلبسها هو وغيره فهل اليمين تعلقت بحمله هذه الخرقة حتى لا يحنث الحالف يلبس غيره لها بعد إزالة ما ذكر أو يحمل اليمين على خلاف القوارة وغيرها فلا يتعلق به اليمين كما في مسألة فتات الخبز عند الإمام وغيره وكما هو ظاهر كلام الروضة إذا حلف لا يلبس هذا الثوب فخيطه قميصا أو قباء أو جبة أو سراويل أو جعل الخف نعلا حنث بالمتخذ منه حتى يحنث البائع بلبسها بعد إزالة ما ذكر‏.‏

الجواب‏:‏

يحنث الحالف والحالة هذه كما هو مقتضي صيغة الحصر حيث حلف لا يلبسها إلا هو ولا يفيد في الدفع الحنث إزالة ما ذهب بالتفصيل من قوارة وقصاصة لأن العرف قاض بإزالة ذلك في الحال التفصيل ليحصل اللبس المعتاد في مثلها وهذا مما لا شبهة فيه ولا وقفة وليس كما لو حلف لا يأكل الرغيف فأكله إلا لقمة كما لا يخفى على من له أدنى ممارسة والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

رجل قال لزوجاته الأربع إحدى زوجاتي طالق وكرر ذلك يقع عليه بكل مرة طلقة وعند قوله لهن إحدى هؤلاء طالق وكرر ذلك لا يقع عليه غير واحدة ولا يقع بالتكرار شيء والحال أنه لم يكن في الموضعين إرادة إنشاء أو إخبار فما هو المعنى المقتضى لوقوع الطلاق عند التكرار في الأولى دون الثانية وهل الحكم في العتق كالحكم في الطلاق في هاتين الصورتين أم يفرق بينهما

الجواب‏:‏

المسألة لا وجود لها في الشرحين ولا في الروضة ولا في شروح المتأخرين لا حكما ولا تصويرا، والذي تقضيه القواعد استواء الصورتين وأنه إن قصد فيهما الاتحاد لم تطلق غير امرأة واحدة أو التعدد وقع بحسب ما عدد وأن أطلق فالذي يظهر أنه لا يقع إلا على واحدة هذا بحسب من يقع عليه الطلاق وأما عدد الطلقات فمرتبة ثانية فان قصد التأكد فواحدة أو الاستئناف أو أطلق فثلاث في صورتي ما إذا لم يقصد إلا امرأة واحدة بلا شك أو أطلق فيما بحثناه ولم نره منقولا والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

رجل قال لأجنبية أنت طالق وزوجتي كذلك هل تطلق زوجته‏.‏

الجواب‏:‏

ذكر الرافعي أنه لو قال نساء العالمين طوالق وأنت يا زوجتي لا تطلق زوجته لأنه عطف على نسوة لم يطلقن وكذا لو قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق وأنت يا أم أولادي لا تطلق زوجته، قال الأسنوي في التمهيد‏:‏ ويؤخذ من ذلك أن العطف على الباطل باطل حتى إذا أشار إلى أجنبية فقال طلقت هذه وزوجتي لا تطلق زوجته، انتهى‏.‏ فقد يقف الواقف على هذا النقل فيظن أنه الصورة المسؤول عنها فيبادر إلى الجواب بعدم الوقوع وليس كذلك فإن الصورة التي ذكرها الرافعي والتي ذكرها الأسنوي في العطف خاصة وهو أن يقتصر على قوله وأنت يا زوجتي أو قوله وزوجتي، وأما الصورة التي في السؤال فليست عطفا بل جملة مستقلة من مبتدأ وخبر حيث ضم إليها قوله كذلك أي طالق فالذي يقال في هذه الصورة أنها صيغة كناية أن نوى طلاقها بذلك طلقت وإلا فلا كما هو المنقول فيما لو طلق هو أو رجل امرأته ثم قال لزوجته أنت كهي فإن نوى طلقت وإلا فلا وكذا لو قال لزوجته أنت طالق عشرا فقالت يكفيني واحدة فقال الباقي لضرتك فإنه إن نوى وقع على الضرة طلقتان وإلا فلا فقوله في صورة السؤال وزوجتي كذلك كقوله أنت كهي وكقوله الباقي لضرتك، ويؤيد هذا التخريج من أصله ما في الشرح والروضة أنه لو أكره على طلاق حفصة مثلا فقال لها ولعمرة طلقتكما فإنهما يطلقان لأنه عدل عن المكره عليه وإن قال طلقت حفصة وطلقت عمرة أو حفصة طالق وعمرة طالق لم تطلق المكره عليها وهي حفصة وتطلق الأخرى فانظر كيف فرقوا بين الأفراد والجمل المستقلة في الحكم‏.‏

مسألة‏:‏

رجل قال لزوجته وكلتك في تطليق نفسك وأتى بهذا اللفظ أي لفظ التوكيل فهل يكون هذا توكيلا حتى لو طلقت بعد شهر نفذ أو تمليكا حتى يعتبر فيه الفور‏.‏

الجواب‏:‏

ذهب القاضي حسين في هذه الصورة إلى أنه يعتبر الفور فيه وإن صرح بالتوكيل لأنه تشوبه شعبة من التمليك قال إمام الحرمين وهو فقه حسن ولكنه متفرد به بين الأصحاب هكذا ذكر في النهاية وذكره الرافعي في الشرح باختصار والنووي في الروضة بأخصر مما في الشرح‏.‏

مسألة‏:‏

شخص حلف على زوجته بالطلاق أنها لا تخبز فطيرا عند الجيران فعجنت دقيقا وجعلت فيه خميرا ثم خبزته قبل أن يختمر عند الجيران وقصده منعها من خبز الفطير عندهم فهل يحنث أم لا‏.‏

الجواب‏:‏

الظاهر أنه لا يحنث عملا بالعرف في ذلك‏.‏

مسألة‏:‏

في رجل قيل له أن لم تطأ زوجتك في هذه الليلة تكون طالقا فقال أي وأن لم ينوي طلاقا ولم يطأ في تلك الليلة فهل يقع عليه الطلاق أم لا‏.‏

الجواب‏:‏

أي حرف جواب كنعم يستعمل في الخبر وفي الإنشاء، قال تعالى في الإنشاء‏:‏ ‏(‏ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق‏)‏ وقد صرح الفقهاء بأن نعم صريحة في الإنشاء كالخبر فكذلك إي فالظاهر وقوع الطلاق بلا نية إلا أن عندي فيه وقفة من حيث إنه تعليق لا تنجيز فقد يقال بالفرق بينهما في مثل هذه الصورة إلا أن الأقرب عدم الفرق خصوصا والقاعدة أن السؤال معاد في الجواب‏.‏

القول المضي في الحنث في المضي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى‏.‏ وبعد فقد تكرر السؤال عمن حلف أنه فعل كذا أولم يفعله أو كان كذا أولم يكن ناسيا أو جاهلا ثم تبين خلاف ذلك هل يحنث في اليمن والطلاق أولا يحنث فيهما كما لو حلف لا يفعل كذا ففعله ناسيا أو جاهلا بأنه المحلوف عليه‏.‏ فأجبت بأن الذي يظهر ترجيحه الحنث بخلاف صورة الاستقبال، ومعتمدي في ذلك نقول صريحة وغيرها من كلام الرافعي والنووي وابن الصلاح وغيرهم من المتأخرين، وليس في كلام أحد منهم التصريح بالتسوية بين صورتي المضي والاستقبال إلا في موضع وقع في الروضة سأذكر تأويله فأقول أما تصريح الرافعي والنووي ففي مواضع أحدها قالا في تعليق الطلاق لو أشار إلى ذهب وحلف بالطلاق أنه الذي أخذه من فلان وشهد عدلان أنه ليس ذلك الذهب طلقت على الصحيح لأنها وأن كانت شهادة على النفي إلا أنه نفي يحيط العلم به- هذه عبارة الروضة وهي إحدى صور المسألة بلا شك فحلفه بذلك إما عن جهل به أو نسيان فلا يصح فرض المسألة مع العلم لأنها حينئذ تطلق قطعا فلا يصح حكاية خلاف فيه وممن صرح بأن فرض هذه المسألة في الجهل والنسيان الأسنوي والأذرعي ثم تعقبه الأول بما اختاره من عدم حنث الجاهل والناسي مطلقا وسيأتي مستنده والجواب عنه‏.‏ وأما الأذرعي فلم يزد على أن قال هنا مأخذه يقتضي عدم الحنث وهو الجهل وليس في هذا اختيار له وسيأتي كلامه في ترجيح الحنث، الموضع الثاني قالا في آخر الباب نقلا عن تعليق الشيخ إبراهيم المروذي وأقراه لو قال السني أن لم يكن الخير والشر من الله فامرأتي طالق وقال المعتزلي إن كانا من الله فامرأتي طالق أو قال السني أن لم يكن أبو بكر أفضل من علي فامرأتي طالق وقال الرافضي أن لم يكن علي أفضل من أبي بكر فامرأتي طالق وقع طلاق المعتزلي والرافضي، وهذه من صور المسألة بلا شك فإن حلف المعتزلي والرافضي صادر عن معتقدهما وغلبة ظنهما، ولم يتعقب الأسنوي في المهمات هذا الموضع فإن قلت لا يصح الاستناد إليه لأن وقوع الطلاق هنا لفساد هذا الظن فلا عذر له قلت هو عين المسألة بلا شك لأن فرضها في ظن فاسد استند إليه ظانا صحته‏.‏ فإن قلت هذا اعتقاد فاسد وهو دون الظن قلت كلا بل الاعتقاد صحيحا كان أو فاسدا أقوى من الظن كما صرح به أهل الأصول إذ جعلوه قسيم العلم في الجزم وجعلوا غير الجازم ظنا ووهما وشكا وانظر جمع الجوامع تجده فيه، ويقرب من هذا الفرع ما نقله في الخادم عن فتاوى القاضي حسين لو حلف شافعي بالطلاق أن من لم يقرأ الفاتحة في الصلاة لم يسقط فرضه وحلف حنفي أنه يسقط وقع الطلاق زوجة الحنفي، وإن كنا لا نسلم الوقوع في هذا الفرع لأن هذا ليس مما تبين القطع بفساده بخلاف مسألة المعتزلي والرافضي‏.‏ الموضع الثالث قال الرافعي لو جلس مع جماعة فقام ولبس خف غيره فقالت له امرأته استبدلت بخفك ولبست خف غيرك فحلف بالطلاق أنه لم يفعل ذلك فان كان خرج بعد خروج الجماعة ولم يبق هناك إلا ما لبسه لم تطلق لأنه لم يستبدل وإنما استبدل الخارجون قبله وان بقي غيره طلقت، واستدرك عليه النووي فقال صواب المسألة أنه إن خرج بعد الجميع نظر إن قصد أني لم آخذ بدله كان كاذبا فان كان عالما أنه أخذ بدله طلقت وإن كان ساهيا فعلى قولي طلاق الناسي، وهذا هو الموضع الذي أخذ منه من أخذ استواء حالتي المضي والاستقبال وليس كما ظنوه بل هو محمول على إجراء الخلاف فقط كما صرح به الرافعي في أوائل الإيمان ولا يلزم منه الاستواء في التصحيح كما هو مقرر معروف خلافا للأسنوي في المهمات حيث تعقب الموضع الأول بأنه إنما يأتي على القول بحنث الناسي واستند في ذلك إلى القول الرافعي في الإيمان أن اليمين تنعقد على الماضي كما تنعقد على المستقبل وأنه إن كان جاهلا ففي الحنث قولان كمن حلف لا يفعل كذا ففعله ناسيا فظن من التشبيه استواءهما في الصحيح وليس كذلك كما أوضحه هو في مواضع كثيرة من المهمات وإنما قلت ذلك هنا لأمور منها موافقة <ص الموضعين السابقين وإلا لأدى إلى التناقض ولاشك أن درأه أولى، ومنها أن الرافعي في الشرح لم يصحح في مسألة الاستقبال شيئا بل حكى القولين بلا ترجيح وإنما الذي رجح عدم الحنث النووي في زوائد الروضة تبعا للمحرر فأكثر ما وقع من الرافعي أنه حكى في مسألة الاستقبال قولين بلا ترجيح ثم حكاهما في مسألة المضي كذلك فكيف ينسب له تصحيح عدم الحنث في المضي وهو لم يصحح في الموضعين شيئا وإذا كان على تقدير تصحيحه في الاستقبال عدم الحنث لا يلزم منه تصحيحه في المضي بمجرد إجراء الخلاف فلأن لا ينسب إليه تصحيح في الثانية مع عدم تصحيحه في الأولى أولى، ومنها أن في فتاوي النووي الإشارة إلى الفرق فانه حكى القولين في حنث الناسي وصحح عدمه ثم قال وصورة المسألة أن يحلف أنه لا يفعل كذا فيفعله ناسيا لليمين أو جاهلا أنه المحلوف عليه فتصويره المسألة بذلك يشعر بأن صورة المضي بخلاف ذلك وإلا لم يكن للتصوير بذلك فائدة وكان فيه إخلال فكيف والمعروف من صنيع العلماء أنهم إذا حكموا بحكم ثم قالوا وصورة المسألة كذا فانهم يقصدون إخراج بقية صورها من ذلك الحكم وهذا أمر لا يخفى على من مارس كلام العلماء وتصانيفهم، ومنها أن جمعا من المتأخرين صرحوا بالمسألة وبتصحيح الحنث فيها منهم ابن الصلاح في فتاويه فقال أنه أظهر القولين قال ولم يذكر المحاملي في رؤوس المسائل إلا الحنث ومنهم قاضي القضاة تقي الدين بن رزين وبالغ في بسط الكلام فيها وقد سقت عبارته في كتاب الأشباه والنظائر بطولها ونذكر هنا المقصود منها قال للجهل والنسيان حالتان إحداهما أن يكون ذلك واقعا في نفس اليمين أو الطلاق كما إذا دخل زيد الدار وجهل ذلك الحالف أو علمه ثم نسيه فحلف بالله أو بالطلاق أنه ليس في الدار فهذه اليمين ظاهرها تصديق نفسه في النفي وقد يعرض فيها أن يقصد أن الأمر كذلك في اعتقاده أو فيما انتهى إليه علمه أي لم يعلم خلافه و لا يكون قصده الجزم بأن الأمر كذلك في الحقيقة بل ترجع يمينه إلى أنه حلف أنه يعتقد كذا أو يظنه وهو صادق في أنه معتقد ذلك أو ظان له فان قصد الحالف ذلك حالة اليمين أو تلفظ به <ص متصلا بها لم يحنث وإن قصد المعنى الأول أو أطلق ففي وقوع الطلاق ووجوب الكفارة قولان مأخذهما أن النسيان والجهل هل يكونان عذرا في ذلك كما كانا عذرا في باب الأوامر والنواهي أم لا كما لم يكونا عذرا في غرامات المتلفات ويقوى إلحاقها بالإتلاف فإن الحالف بالله أن زيدا في الدار إذا لم يكن فيها قد انتهك حرمة الاسم المعظم جاهلا أو ناسيا فهو كالجاني خطأ، والحالف بالطلاق إن كانت يمينه بصيغة التعليق كقوله إن لم يكن زيد في الدار فزوجتي طالق إذا تبين أنه لم يكن فيها فقد تحقق الشرط الذي علق الطلاق عليه فإنه لم يتعرض إلا لتعليق الطلاق على عدم كونه في الدار ولا أثر لكونه جاهلا أو ناسيا في عدم كونه في الدار، وأما إن كان بغير صيغة التعليق كقوله لزوجته أنت طالق لقد خرج زيد من الدار وكقوله الطلاق يلزمني ليس زيد في الدار فهذا إذا قصد به اليمين جرى مجرى التعليق وإلا لوقع الطلاق في الحال وإذا جرى مجرى التعليق كان حكمه حكمه، هذه عبارة ابن رزين بحروفها في هذه الحالة، ثم ذكر الحالة الثانية وهي التعليق على الفعل في المستقبل فيفعله ناسيا أو جاهلا وصحح عدم الحنث فيها كما هو المشهور، وجزم بما قاله ابن رزين من غير عزو إليه القمولي في شرح الوسيط كما رأيته فيه ونقله عنه الأذرعي في القوت وقال إنه أخذه من كلام ابن رزين، وذكر أيضا الزركشي في الخادم كلام ابن رزين وقال تابعه القمولي وغيره. قلت: وعلم من كلام ابن رزين تقييد محل الخلاف بقيدين مهمين أحدهما أن لا يقصد في يمينه الحلف على ظنه فإن قصد أن ظنه كذلك لم يحنث قطعا، الثاني أن لا يكون بصيغة التعليق فإن كان حنث قطعا وهذا لا يمتري فيه أحد بدليل مسألة الغراب المذكورة في المنهاج وإنما نبهت عليه لأني رأيت بعض ضعفاء المشتغلين يهمون فيه ويظنون أنه لا فرق بين صيغة التعليق وغيرها في عدم الحنث في المضي أيضا وهذا جهل مبين، وقال الأذرعي في القوت تكلم ابن رزين على هذه المسألة في فتاويه وأحسن ولا ذكر لقسم المضي في كلامهم ويشبه أن يقال إن قلنا في مسألة الاستقبال بعدم الحنث وانحلال اليمين فينبغي أن لا يحنث هنا وإن قلنا لا ينحل كما رجحه الرافعي والنووي فقد جعلناه خارجا من اليمين فيحنث لأن في إخراجه عن اليمين هنا تكلفا فلم يحلف هنا إلا على كونه في الواقع كذلك لا على ظنه ثم قال نعم يشبه أن لا يلزمه كفارة لأنه إذا حلف معتقدا فلا انتهاك وينبغي وقوع الطلاق إذا قصد تحقيق الخبر بتعليق الطلاق بنقيض الحالة التي أخبر عنها ولم يكن كذلك، وقال صاحب الخادم فصل ابن رزين بين أن يقصد في يمينه أن ظنه كذلك فلا يحنث وبين أن لا يقصد ذلك فيحنث وأطلق ابن الصلاح الحنث والصواب تفصيل ابن رزين قال ويدل لعدم الحنث في حالة القصد يمين عمر في ابن صياد أنه الدجال ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بالكفارة قال وينبغي أن يكون في القصد هل هو حالة اليمين أو بعدها الخلاف في الاستثناء ونية الكناية. انتهى. قال الشيخ ولي الدين العراقي في مختصر المهمات عند قول الروضة فإن حلف على ماضي كاذبا فإن كان جاهلا ففي وجوب الكفارة القولان فيمن فعل المحلوف عليه ناسيا ما نصه: قلت أفهم تعبيره بالجهل أن صورة المسألة أن يحلف على نفي شيء جهل وجوده فلو حلف على إثبات شيء بالتوهم ثم تبين خلافه فينبغي أن لا يجري فيه الخلاف بل يجزم بالحنث ولا عبرة بالظن البين خطأه قال والفرق بينهما أنه بنى يمينه في النفي على أصل ولم يبن يمينه في الإثبات على شيء قال وبدل لذلك أمور منها كلامهم في مسألة الغراب ومنها ما في الروضة لو أشار إلى ذهب وحلف بالطلاق أنه الذي أخذه من فلان وشهد شاهدان أنه ليس ذلك الذهب طلقت على الصحيح وإن كانت شهادة على النفي لأنه نفي يحيط العلم به أي محصور قال وهذا يدل على الفرق بالنسيان في الماضي بين النفي والإثبات انتهى، فانظر كيف بالغ رحمه الله وجزم بالحنث في قسم الإثبات من غير إجراء خلاف وهو صريح منه في أن مسألة الذهب المذكورة ليست مفروضة في العلم.

(تنبيه) ممن جزم بمقالة ابن الصلاح وابن رزين من المتأخرين ابن الملقن في شرحه الكبير والكمال الدميري ثم حكى عن الأسنوي تصحيح عدم الحنث، ومن نقل عن الدميري والأذرعي أنهما قالا بعدم الحنث فقد غلط عليهما كما يعرف ذلك من راجع شرحيهما وله دني فهم.

(تنبيه) أصل مسألة الجهل والنسيان التي تختص بالاستقبال مضطرب فيه غاية الاضطراب توقف فيها الأئمة الجلة حتى قال الصيمري ما أفتيت في يمين الناس قط وكذا قال أبو الفياض والماوردي قال لأن استعمال التوقي أحوط من فرطات الأقلام ومن توقف في الترجيح فيها الرافعي في الشرح فأنه أرسل القولين ولم يرجح واحدا منهما وذكر النووي من زوائده أن الراجح عدم الحنث وصور في فتاويه المسألة بالاستقبال كما تقدم فحينئذ أصل هذه المسألة المبنى عليها مضطرب فيه يتوقف فيه لا ترجيح فيه للرافعي في الشرح وإن رجح في المحرر وترجيح النووي فيه مقيد به كما أفصح به هو في فتاويه فلا يتعداه إلى غيره مع تصريحه هو والرافعي في عدة مسائل بما يقتضي الفرق بين المسألتين ومع تصريح خلائق من أئمة المذهب منهم من هو في مرتبة الترجيح بالفرق أيضا، ثم رأيت في الخادم ما نصه توقف الرافعي في الترجيح في مسألة الناسي وكذلك الموجود في غالب كتب الأصحاب إرسال القولين بلا ترجيح، وتوقف في الإفتاء فيها القاضي أبو حامد وأبو الفياض البصري وأبو القاسم الصيمري والماوردي وكذلك ابن الرفعة في آخر عمره، ورجحت طائفة الحنث منهم أبو بكر الصيرفي في كتاب الدلائل والأعلام واختاره ابن عبد السلام في القواعد وبه قال الأئمة الثلاث لأن اللفظ لم يغلب في عرف الاستعمال على حال الذكر وقال غيره أنه الأرجح دليلا وأنه قول أكثر العلماء وأنه أثبت في المذهب فإن الطلاق من خطاب الوضع لأنه نصب سببا للتحريم وخطاب الوضع لا يشترط فيه علم المكلف وشعوره ولهذا لو خاطب زوجته بالطلاق جاهلا بأنها زوجته وقع فكذلك الناسي، وأما حديث (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) فهو محمول على نفي الإثم والمؤاخذة ولا عموم فيه من حيث أن الكلام إنما يصح فيه تقدير مضمر ولا عموم في المقدرات على ما تقرر في الأصول، وذكر نحو هذا الكلام الشيخ بهاء الدين السبكي في تكملة شرح المنهاج لأبيه وزيادات والده أيضا كان يتوقف في الفتوى بها وإنما نقلت هذا كله لأبين لك أن مسألة الاستقبال متوقف فيها غاية التوقف فمن مصحح للحنث وناسبه للأكثرين ومن متوقف حتى الرافعي فكيف يلحق بها مسألة المضي من غير نقل صريح فيها عن المتقدمين أو المصححين مع التصريح منهم بالحنث فيها من غير تصريح بخلافه هذا ما لا يكون أبدا.

(تنبيه) قيل قد تعقب في المهمات الموضع الأول في الروضة بأن الرجوع إلى الشهادة فيه نزاع ومخالف للمذكور في الصلاة أنه لا يرجع إلى أخبار الغير بل إلى تذكره قلنا هذا لنا لا علينا فإنه إذا حكم بالحنث عند الإخبار المتنازع في قبوله فعند تذكره هو أولى ومعولنا على الانكشاف والتبيين بطريق معتبر مقبول.

(تنبيه) إن قيل حديث عمر في حلفه أن ابن صياد هو الدجال يدل على عدم الحنث مطلقا لأنه ليس فيه ما يدل أنه قصد أن ظنه كذلك فيكون عاما قلت لا دلالة فيه فإن ابن صياد لم يتبين أمره ولا حنث مع الشك والأخبار في كونه هو الدجال أو غيره متعارضة وقد قال النووي في شرح مسلم قال العلماء قصة ابن صياد مشكلة وأمره مشتبه والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه في أمره بشيء وإنما أوحى إليه بصفات الدجال وكان في ابن صياد قرائن محتملة فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقطع في أمره بشيء بل قال لعمر لا خير لك في قتله- الحديث هذا كلام النووي.

(تنبيه) ذهب بعض علماء العصر إلى الحنث في الجهل دون النسيان فقلت له لا يصح هذا لأن الجاهل أولى بالعذر من الناس إذ من علم ثم نسي ينسب إلى تقصير صرح بذلك الفقهاء في مواضع منها من صلى مع نجاسة جهلها هل تلزمه الإعادة قولان أصحهما- نعم فإن علمها ونسيها فطريقان أصحهما القطع بالإعادة لأنه منسوب إلى تقصير بخلاف الجاهل، وفي التيمم لو أدرج في رحله ماءا ولم يشعر به فتيمم وصلى لا إعادة عليه بخلاف ما لو علم في رحله ماءا ثم نسيه وتيمم تلزمه الإعادة فقبله لإنصافه.

(تنبيه) تخيل متخيل الحنث في اليمين دون الطلاق لأن في الأول الكفارة فهو من باب الغرامات فلا يعذر فيها بالنسيان ونحوه كالإتلاف ونحوها بخلاف الطلاق إذ لا غرامة فيه، وهذا تخيل فاسد بل الطلاق أولى بالحنث من اليمين ألا ترى أن مسألة الاستقبال طريقة قاطعة بالحنث في الطلاق وتخصيص الخلاف باليمين لأن المدار فيه على هتك حرمة الاسم المعظم ولا هتك مع النسيان ونحوه والمدار في الطلاق على وجود الصفة المعلق عليها وهي موجودة بكل حال.

(تنبيه) قيل يدل لعدم الحنث قوله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) فإن أحد الأقوال في تفسير اللغو إنه الحلف على الشيء يرى أنه كذلك ثم يتبين خلافه فلا إثم فيه ولا كفارة قلت الجواب عنه من وجهين أحدهما أن الأصح المعتمد في تفسير الآية إنها فيما سبق إلى اللسان من غير قصد اليمين، روينا هذا التفسير بأسانيد صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا وعن ابن عباس وعائشة موقوفا كما أسندته في كتاب ترجمان القرآن وهو التفسير المسند وعليه أكثر المفسرين من السلف وغيرهم منهم مجاهد وعكرمة والشعبي وأبو قلابة وأبو صالح وطاووس والنخعي وخلائق ونقله ابن العربي في أحكام القرآن عن تفسير الشافعي وذهب آخرون وهو رواية عن ابن عباس إلى أنه فيمن حلف على أمر على أن لا يفعله فيرى الذي هو خير منه فأمر الله أن يكفر يمينه ويأتي الذي هو خير- هكذا أخرجه ابن جرير من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس وهو أصح الطرق عنه في التفسير، واستفدنا منها أن نفي المؤاخذة في الآية خاص بالإثم دون الكفارة، وذهب آخرون إلى أن الآية في الحلف على فعل حرام أو ترك واجب فيحنث ويكفر أخرج ذلك ابن جرير عن سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وصرحا بأن نفي المؤاخذة خاص بالإثم دون الكفارة وذهب آخرون إلى أنها فيمن حلف على الشيء أن يفعله فينسى، الوجه الثاني أن القول بأنها فيمن حلف على الشيء يظن أنه كذلك فإذا هو غيره أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة وابن عباس بإسنادين ضعيفين وأخرجه عن جماعة من التابعين، ثم هم ثلاث فرق فرقة سكتت عن وجوب الكفارة وعدمه وفرقة صرحت بوجوبها وفرقة صرحت بعدمه فالاستدلال بقول هذه الفرقة معارض بقول الفرقة الأخرى ويؤيد ذلك أشياء منها أن نفي المؤاخذة إنما ينصب على الإثم دون الكفارة بدليل ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ومعلوم أن الكفارات والغرامات غير داخلة في ذلك ومنها أن هذا التفسير اختاره مالك كما نقله عنه ابن العربي في أحكامه مع أن مذهبه في المسألة وقوع الطلاق فدل على أن الآية ليست دالة على خلاف ذلك ومنها أن في الآية ما يدل على وجوب الكفارة مع عدم المؤاخذة وهو قوله فكفارته إطعام إلى آخره فإن ابن عباس وغيره قالوا أن الضمير راجع إلى لغو اليمين الذي لا مؤاخذة فيه شرعت فيه الكفارة جبرا وذهبوا إلى أن قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم وبما عقدتم الأيمان في اليمين الغموس وأنها لا كفارة فيها تغليظا عليه وهو مذهب جماعة من العلماء ورأى عندنا جار في القتل عمدا فلم يجعل هؤلاء فيه الكفارة تغليظا وخصوصا بقتل الخطأ وكذلك ترك الصلاة والصوم عمدا قال هؤلاء لا قضاء فيه تغليظا وترك أبعاض الصلاة عمدا قالوا أيضا لا يجبر بالسجود والقائلون بالكفارة في اليمين الغموس وهو المعظم استدلوا بالقياس على غيرها لأنها أولى بالجبر كما استدلوا بذلك في القتل وما ذكر معه فإذا ثبت وجوب الكفارة في اللغو المفسر بالخطأ على هذا التقرير من رجوع الضمير إلى اللغو، ويحرر ذلك على مذهب من يرى وجوب الكفارة في اليمين الغموس ومن لا يراه فإن قيل الضمير يرجع إلى أقرب مذكور قلنا ليس هذا بدائم ولا غالب بل تارة كذا وتارة بخلافه خصوصا إذا ورد التفسير بذلك من أصح الطرق عن ابن عباس الذي هو ترجمان القرآن وحبر الأمة وإمام العرب وتابعه فيه أئمة التابعين.

(تنبيه) قيل: يدل لعدم الحنث قوله تعالى (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) قلت: لا دلالة فيه لأوجه:

أحدها أن جماعة قالوا الآية مخصوصة بنسبة زيد إلى محمد وهو السبب الذي نزلت فيه الآية وهذا على رأي من يقول العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.

الثاني على اعتبار العموم اتفق المفسرون أو أكثرهم على تفسير الخطأ في الآية بما كان من غير قصد فعلى هذا إنما يصح الاستدلال بالآية على ما سبق إليه اللسان من الأيمان فهو كقوله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) على أصح الأقوال فيه ولهذا عقبه بقوله (ولكن ما تعمدت قلوبكم) كما قال هناك (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم).

الثالث على تقدير تسليم أن المراد بالخطأ ما هو أعم من ذلك أن الآية دالة على نفي الإثم فقط لأنه معنى الجناح قال الجوهري في الصحاح الجناح بالضم الإثم هذه عبارته، ولا يلزم من نفي الإثم نفي الكفارة ألا ترى أن القاتل خطأ عليه الكفارة إجماعا وكذا الجاني في الإحرام بإزالة شعر أو نحوه خطأ ومن ظن أن وقوع الطلاق وكفارة اليمين من باب خطاب التكليف لا الوضع فقد أبعد وليت شعري ما يقول المحتج بعموم هذه الآية فيمن صلى بنجاسة جاهلا فإن قال لا تلزمه الإعادة أخذا بعمومها فقد خالف مذهب الشافعي وإن قال ألزمه الإعادة ولا أقيده بجهله إلا عدم الإثم فقد سلم ما قلناه.

(تنبيه) فإن قلت هذا تحرير النقل والدليل فما تحرير الفرق بين المضي والاستقبال من حيث المعنى حيث قلت بالحنث في الأول دون الثاني قلت تحرر لي في ذلك ثلاثة فروق: أحدها ما أشار إليه ابن رزين أن الانتهاك ونحوه في الأول وقع حالة اليمين بخلاف الثاني فإن نفس اليمين صدرت سالمة من ذلك ثم طرأ ذلك بعدها وكان هذا راجع إلى أنه يغتفر في الأثناء ما لا يغتفر في الابتداء. الثاني ما أشار إليه الأذرعي أن ترك الحنث في الأول يؤدي إلى إلغاء اليمين الصادرة بالكلية وإلغاء يمين مقصودة لم يسبق إليها اللسان بعيد بخلاف الثاني فأن ترك الحنث فيه لا يؤدي إلى ذلك بناء على أن اليمين لا تنحل وهو الأصح فتؤثر بعد ذلك. الثالث وهو أقواها عندي ولم أر من تعرض له أن الحالف على الماضي غير معذور بخلاف الحالف على المستقبل وبيان كونه غير معذور من وجهين أحدهما أن الحالف على الماضي لا يقصد به إلا تحقيق الخبر إذ لا يتعلق به حث ولا منع فكان عليه أن يستثبت قبل الحلف بخلاف الحالف على المستقبل فإن قصده الحث أو المنع فله في الحلف قصد صحيح والاستثبات فيه غير متصور فإذا وقع الفعل المحلوف عليه مع جهل أو نسيان كان معذورا بخلاف الحالف على الماضي غير مستثبت ولا متحقق فإنه مقصر غير معذور، الوجه الثاني أنه كان يمكنه أن يحلف على أن ظنه كذا أو معتقده أو ما انتهى إليه علمه لافظا بذلك أو ناويا له فيكون صادقا فلما ترك ذلك وعدل إلى الجزم بأنه في نفس الأمر كذلك والواقع بخلافه كان كاذبا مقصرا حيث لم يقتصر في يمينه على ظنه بل عداه إلى الواقع جازما به فلم يعذر لذلك، ومما يصلح أن يعد فرقا رابعا أن التعليق في الماضي يقتضي الحنث مع الجهل قطعا كقوله إن كانت امرأتي في الحمام فهي طالق بخلاف التعليق في المستقبل فإنه لا يقتضي الحنث إذا وقع مع الجهل أو النسيان وإذا افترق المضي والاستقبال في التعليق فلا بدع أن يفترقا في اليمين لأنه جار مجراه.

(تنبيه) تقدم في كلامي أنه لا يلزم من البناء وإجراء الخلاف الاستواء في التصحيح وهذا أمر متفق عليه فإن قيل الغالب الاستواء قلنا لا يلزم الحمل على الغالب إلا مع عدم التصريح بخلافه على أنه إن أريد بالغالب أن ذلك هو الأكثر مع كثرة مقابله أيضا فهذا لا يمنع الحمل على غير الغالب الكثير لما قام من الشواهد لذلك وإن أريد أن ما خالف ذلك نادر جدا فليس كذلك بل هو في غاية الكثرة ولولا خشية الإطالة والخروج عن المقصود لأوردت مسائله هنا وقد أفردتها بتأليف مستقل، ومن أمثلة ذلك ما ذكره الرافعي لو نسي الماء في رحله فتيمم وصلى فقولان أظهر هما وهو الجديد وجوب الإعادة قال ولو أدرج الماء في رحله وهو لا يشعر به ففيه قولا النسيان لكن الأصح هنا نفي الإعادة لأنه لا تقصير فيه وفي الذهول بعد العلم نوع تقصير وهذا الفرع أشبه شيء بالمسألة التي نحن فيها فإن الناسي في مسألة الاستقبال لا ينسب إلى تقصير بخلاف مسألة المضي فإن الإقدام على الحلف على نفي الشيء بعد وقوعه أو عكسه فيه نوع تقصير، وما أحسن قول الشيخ تاج الدين السبكي في رفع الحاجب رب فرع لأصل ذلك الأصل يظهر فيه الحكم أقوى من ظهوره فيه لانتهاض الدليل عليه ولهذا ترى الأصحاب كثيرا ما يصححون في المبنى خلاف ما يصححونه في المبنى عليه انتهى.

(تنبيه) مما يحصل الائتناس به لما قلناه قول الفقهاء إن المسألة ذات الطريقين إذا كان الأصح فيهما طريقة الحلاف فالغالب أن الأصح فيها ما وافق طريقة القطع وهذه المسألة فيها طريقة قاطعة بالحنث كما تقدم أن ابن الصلاح نقل ذلك عن المحاملي وحينئذ فالراجح من قولي الطريقة المشهورة ما وافقها، على أن عندي في إثبات القولين في المسألة نظرا فإن الأذرعي ذكر أن الأصحاب لم يتعرضوا لقسم المضي فالظاهر إجراء القولين فيها من تخريج الرافعي، ثم رأيت أن أوسع النظر في كتب الشافعي والأصحاب في هذه المسألة لاقف على متفرقات كلامهم فيها واعلم من تعرض لها ممن لم يتعرض لها فراجعت الأم فوجدت فيها ما يدل على الحنث ونصه في أبواب ما اختلف فيه مالك والشافعي قال الربيع قلت للشافعي ما لغو اليمين فقال أما الذي نذهب إليه فما قالت عائشة أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت لغو اليمين قول الإنسان لا والله وبلا والله فقلت للشافعي ما الحجة فيما قلت قال اللغو في لسان العرب الكلام غير المعقود عليه فيه من جماع اللغو يكون الخطأ فخالفتموه وزعمتم أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يظن أنه كما حلف عليه ثم يوجد على خلافه قال الشافعي فهذا ضد اللغو هذا هو الإثبات في اليمين بعقدها على ما يعقد عليه وقول الله (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) ما عقدتم به عقد اليمين عليه ولو احتمل اللسان ما ذهبتم إليه منع من احتماله ما ذهبت إليه عائشة وكانت أولى أن تتبع منكم لأنها أعلم باللسان منكم مع علمها بالفقه- هذا نصه بحروفه، فقوله هذا ضد اللغو إلى آخره صريح في الحكم بالحنث والمؤاخذة على خلاف ما في اللغو فإن الشافعي قصد بهذا الكلام الرد على مالك فإنه اختار تفسير اللغو في الآية بذلك كما تقدم واحتج به على عدم الحنث في اليمين فيمن حلف على ظنه ثم تبين خلافه وإذا كان نص الشافعي صريحا في الحنث في اليمين ففي الطلاق أولى لأن مالكا موافق على الحنث فيه، ثم رأيت في موضع آخر من الأم ما نصه قيل للشافعي فإنا نقول أن اليمين التي لا كفارة فيها فإن حنث فيها صاحبها إنها يمين واحدة إلا أن لها وجهين وجه يعذر فيه صاحب ويرجى له أن لا يكون عليه فيها إثم لأنه لم يعقد فيها إثم ولا كذب وهو أن يحلف بالله على الأمر لقد كان ولم يكن فإذا كان ذلك جهده ومبلغ علمه فذلك اللغو الذي وضع الله منه المؤونة عن العباد وقال (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) والوجه الثاني أنه إن حلف عامدا للكذب استخفافا باليمين بالله كاذبا فهو الوجه الثاني الذي ليست فيه كفارة لأن الذي يعرض من ذلك أعظم من أن يكون فيه كفارة وأنه ليقال له تقرب إلى الله بما استطعت من خير فقال الشافعي أخبرنا سفيان ثنا عمرو بن دينار وابن جريج عن عطاء قال ذهبت أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة وهي معتكفة في ستر فسألتها عن قول الله عز وجل (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) قالت هو لا والله وبلى والله قال الشافعي فلغو اليمين كما قالت عائشة رضي الله عنها وذلك إذا كان على اللجاج والغضب والعجلة لا يعقد على ما حلف عليه وعقد اليمين أن يثبتها على شيء بعينه أن لا يفعل الشيء فيفعله أو ليفعلنه فلا يفعله أو لقد كان وما كان فهذا عليه الكفارة هذا نصه بحروفه، وقوله قيل للشافعي يعني من جهة أصحاب مالك فهذان نصان في الأم صريحان في الحنث، وقد استوعبت الأم من أولها إلى آخرها فلم أجد فيها تعرضا للمسألة إلا في هذين الموضعين وقد جزم فيها بالحنث كما ترى ثم راجعت مختصر المزني.